و... ولد الغضب ماردا فى قلوب المصريين
ثلاثون عاما من الصبر ... تحت حكم الفرعون....
ثلاثون عاما من الصبر ... تحت حكم الفرعون....
وهنا تطفو على السطح أحاديث السياسة والثقافة
فيما جرى ويجرى فى مصر من مطالبات بالإصلاح على مدى ثلاثين عاما هى فترة الحكم
القمعى لحسنى مبارك، فقد إمتدت حالة الغضب والإحتقان السلبى على مدى سنوات ،
وتصاعدت فى المجتمع بكافة أطيافه من قضاة ومثقفين وأساتذة جامعات وصحفيين ومحامين
وطلاب وعمال وقطاعات شعبية لم يعرف عنها الغضب والإاعتراض على السلطة.
حتى
وصل عدد الإعتصامات والإضرابات العمالية فى أحد الشهور من عام 2007 ما يقرب من
التسعين إضرابًا وإعتصامًا، ورغم ذلك جرت قراءات لهذه الإحتقانات فصلت بين الحدث
السياسي وبين الثقافة التى أنتجته وشكلته بهذه الطريقة والكيفية وأخرجته بتلك
الصورة، فإنهالت ألسنة حداد على المصريين تصفهم بالضعف والوهن وأنهم شعب ألف السكون وعدم التمرد وعدم
المطالبة بحقوقه، وإنقلب النقاش إلى جلد للذات، ونقد لطبائع المصريين.
المصريون كأي شعب له خصاله الجيدة وخصاله
السلبية ، وله خبرته وحكمته ومشكلاته التي عمقتها التجارب، ومن ثَم فالناظر إليهم
يجب ألا يرى الشعب من القشرة الفعل، وسطح الصمت، ومظهر الإنسحاب؛ بل يجب أن يخترق
اللب ويقترب من ثقافتهم ويدرك أنها ثقافة معقدة ومتجذرة، ويتساءل: لماذا أنتج
المصريون هذا الفعل بهذه الطريقة؟ ولماذا فضلوا الصبر على أن يثوروا فى وجه الطغيان، ولماذا آثروا الصمت على الغضب،
والطاعة على التمرد، والمشي داخل الجدار بدلاً من كسره؟!
وقد ننظر للمصريين على أنهم لم يسعوا للإنطلاق إلى الحرية، وأنهم فضلوا الحياة مهما
كان كدرها، حتى لو كان الخبز مطحونا بالكرامة، لكن هل المصريون هم تلك الشخصية،
وهل خلقوا “خاضعين بالطبيعة”، ولا جدوى من التغيير؛ لأن هذه الرواسب تشبه النقوش
الفرعونية، فالشخصية المصرية أعظم آثار الفراعنة وليس الأهرامات.
والواقع أن الإجابة على الأمور السابقة تحتاج
إلى تفهم المصريين للسلطة و التعامل معها، فالبعض يرى أن العلاقة بين المواطن وبين
السلطة حسمت منذ وقت مبكر، وتمت صياغة أسسها قبل آلاف السنين بلا إنقطاع، واستقرت
على تلك الممارسة والخبرة التاريخية، وبالتالي لا سبيل للعودة إلى الجذور البعيدة
لإصلاح ذلك الخلل.
والتساؤل الذى يطرح نفسه هنا، هل للحرمان
بمعناه السياسى والإقتصادي دور فى غرس وتنمية ثقافة الغضب والعنف والتمرد فى نفوس
المصريين ، ومن ثَم يكون وجود الحرمان بدرجاته المختلفة موقظًا ومستدعيًا لهذا
الشعب لكى يحقق الإشباع والتوازن مرة أخرى؟..
إن التاريخ ، يجيب على هذا السؤال ، وقد أشرنا
فى فصل سابق إلى تاريخ المصريين فى الثورات على الحكام و الطغاة و المستعمرين ،
وتحدثنا إنجازات كبيرة حققتها هذه الثورات فى تاريخ مصر ، لكن الذى نتوقف عنده
قليلا هى طبيعة الشعب المصرى التى تميل إلى السلبية طويلا ... ثم تعقبها إيجابية
متفجرة ثائرة ... تتصف بالبركانية ... وقد تكون محسوبة العواقب أو غير محسوبة .
إن الشعب المصرى ولعقود طويلة لم يكن آملا فى
التغيير ، بل توقف الأمر فى أفضل الأحوال عند حدود التمنى ، والتمنى يعنى تحقيق
الأشياء بغير أيدينا نحن ، وربما كنا ننتظر حلولا لا ندفع ثمنها ... أو لا نغامر
فى دفع ثمنها ، وربما كانت هذه السلبية ترجع لأسباب كثيرة ، أبرزها – فى عهد مبارك
– هو قيامه بإشغال الشعب و المواطنين بلقمة عيشهم .... فإذا كنت لاتجد قوت يومك ،
وإذا كنت لاتضمن ساعة واحدة من مستقبلك ، وإذا كنت مضطهدا فى عقيدتك ودينك - سواء
كنت مسلما أو مسيحيا – وإذا كنت لا تجد مسكنك ،وإذا كنت لا تجد ثمن قرص الدواء حين
تصاب بالداء ، و إذا كان الشباب يتخرجون من جامعات لايكفل مستواها العلمى أن تفرز
خريجين يقبلهم سوق العمل ، وإذا ... و إذا .... فكيف ستفكر جديا فى مستقبل وطنك
؟!!وكيف ستسعى للتغيير ؟!!
لقد كان المصريون يأملون كثيرا فى الرئيس
الراحل أنور السادات ... خاصة بعد أن قدم لهم نصر أكتوبر ، ثم ضمن لهم الإستقرار
والسلام ، لكن القدر لم يمهله أن يستكمل مشواره نحو مصر الحديثة الواعدة ....
وربما يعود ذلك أيضا للعام الأخير فى سنوات حكمه ، والذى بدأت خلاله صورته تتغير
كثيرا فى عقول المصريين .
لكن المصريون عقدوا الآمال على محمد حسنى مبارك
، بعد حادثة المنصة الأليمة ، ومن كان يحب السادات ... ويقدر دوره فى الحرب و
السلام ، ويلتمس له الأسباب و الأعذار – وهم أغلبية الشعب المصرى فى ذلك الوقت –
كان ينتظر أن يمتد دور السادات فى حسنى مبارك ، فهو نائبه ... والذى إختاره على
عينه و بإرادته ، وهو من مدرسته ، وقد تتلمذ فى شئون الحكم و القيادة على يديه
طوال ست سنوات قضاها نائبا لرئيس الجمهورية قبل إغتيال السادات .
وتولى مبارك الحكم فى ظروف عصيبة .... ولم يكن
أمام الشعب خيارا سواه ، فأصلا لم يكن مطروحا غيره .... وفى غيبوبة صدمة إغتيال
السادات ... تولى مبارك الحكم بشكل تلقائى ، ووجد الشعب رئيسا جديدا له يدعى
" حسنى مبارك " !!
وكانت مشكلة مبارك الكبرى ... أنه جاء خلفا
لزعيمين تاريخيين فى مصر ، الأول جمال عبد الناصر ، الزعيم الأكثر تأثيرا و تأييدا
فى تاريخ مصر الحديث ، والثانى هو أنور السادات بطل الحرب والسلام ، أما مبارك
فكان بلا تاريخ شعبى ، وقد إقتصرت سيرته الذاتية فقط على تاريخه المهنى فى القوات
الجوية المصرية .
كان هذا الأمر يمثل عقده لحسنى مبارك ، لكنه
وجد لها حلا سريعا ، فى أكذوبة الضربة الجوية ... وإنطلقت أجهزة إعلامه ... ووزراء
تعليمه ... فى تغييب عقول الشعب على جميع فئاته ... بداية من سن الطفولة ، وحتى
عقول الشيوخ و المسنين ، وبدأ
التلفيق و التزوير فى كتب التاريخ ، وعلى شاشات التليفزيون ، وخلف ميكروفونات
الإذاعة ، وكلها تروج لأن البطل الحقيقى فى نصر أكتوبر هو بطل الضربة الجوية حسنى
مبارك .
كان ذلك ظلما فادحا للرئيس الراحل أنور السادات
، وكبار قادة القوات المسلحة الذين شاركوا و خططوا لحرب أكتوبر عام 1973 و أبرزهم
الفريق سعد الدين الشاذلى ، و المشير أحمد إسماعيل ، والمشير عبد الغنى الجمسى ،
والفريق محمد على فهمى قائد الدفاع الجوى ، بالإضافة إلى قادة أفرع القوات المسلحة
وضباطها و جنودها البواسل الذين خاضوا حرب أكتوبر عام 1973 ببسالة و جسارة غير
مسبوقة .
لكن حسنى مبارك وجد ضالته فى الضربة الجوية ،
وحاول أن يجعلها مستندا تاريخيا لشرعيته ، ومن المثير للدهشة أنه لم يتحمس يوما
لإنتاج فيلم سينيمائى عن نصر أكتوبر ، على الرغم من أن السينيما تعتبر ذاكرة الأمة
، وأن كل الشعوب تسجل أمجادها و إنتصاراتها فى أعمال فنية و أفلام سينيمائية كى
تظل هذه الإنجازات مسجلة عبر التاريخ ، فتنتقل من جيل إلى جيل ، ولا تسقط من ذاكرة
التاريخ ، لكن مبارك لم يتحمس لذلك ، بل قيل أنه كان يعيق مثل هذه المحاولات ، فلا
يمكن أن يصنع فيلما عن حرب أكتوبر دون أن يسرد إنـجازات كل هؤلاء الأبطال الذين
ذكرناهم و غيرهم ، وبالطبع كان مبارك سيأخذ دوره فى ذيل هذه القائمة ، ويظهر دوره
الحقيقى ، وهو ما لن يتوافق مع أكذوبة " الضربة الجوية " .
وكانت هذ الأكذوبة ... هى الخطأ الأول ... الذى
إرتكبه فى بداية حكمه و إستمر معه حتى إنتهائه ، وخطورة هذا الخطأ ، أنه تزوير فى
حقائق تاريخية هامة ملايين المعاصريين لها على قيد الحياة ، وهو ما كان المسمار
الأول فى نعش حسنى مبارك .... وقد دقه منذ ثلاثين عاما ... بتكوينه عداءا مباشرا
مع كل محبى السادات و مؤيديه وهم بالملايين فى مصر ، خاصة بعد تساؤلات مثيرة
ومستمرة منهم على حقيقة ما جرى فى حادث المنصة يوم 6 أكتوبر عام 1981 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق