الأولى ..... " البسملة "

( بسم الله الرحمن الرحيم )

منذ الطفولة والمراهقة وأنا أداوم والحمد لله على قراءة القرآن الكريم ... كتاب الله المنزل على نبيه المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام ، وعليه البلاغ المبين ، ونشهد جميعا أنه أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة ... وكنت دائما وما زلت مقتنعا بأن كلمات القرآن الكريم يجب أن تتخطى فى نفوسنا حاجز القراءة إلى حيز التنفيذ والعمل ... ولو قمنا بذلك على خير وجه وأعطينا كلمات الله حقها لتغير حالنا من العدم إلى الوجود ... ومن الأسوأ إلى الأفضل ، ولرأينا حق الرؤية نعم الله وفضائله علينا ...
ومع مرور السنين ، صارت العلاقة بينى وبين كتاب الله ... علاقة بحث وإستقراء لما بين الآيات من أهداف ومعانى وتعاليم ... بل تعدى الأمر أيضا إلى بحثى فى الكتب السماوية الأخرى وخاصة الإنـجيل وما جاء فى العهد القديم والجديد ... وأنا أرى أنه واجب على المؤمن الحق أن يتطلع ويتدارس ليزداد إيمانه بالله .. الواحد الأحد ... سبحانه المنزه عن كل نقص ... عالم الغيب والشهادة .. اللطيف الخبير .
ومن وحى كلمات القرآن الكريم ... أجدنى أكتب إليكم ما أرجو أن يفيدكم كما أفادنى .. وأن يهب الله بصيرتكم بالنور والإيمان وفضائل الحق ....
كانت الوقفة الأولى فى سورة الفاتحة ..فاتحة الكتاب ... حين يقول الله تعالى فى بدايتها ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ... وهى آية من آيات سورة الفاتحة البالغ عددها سبعة آيات ... ويقول العلماء فى تفسير جعل ( البسملة ) آية مستقلة فى سورة الفاتحة .. عدة تفاسير .. تتعلق بالأحكام أن قراءة الفاتحة شرط فى صحة الصلاة ويستحب أن تفتتح الصلاة بإسم الله الرحمن الرحيم ، وذكرت آية بذاتها ليصبح وجوبا قولها ونطقها فى بداية كل ركعة من الركعات أثناء الصلاة ... وقد إختلف العلماء فى تفسير ذلك ... وبعضهم قال نطقها واجب فى كل صلاة ... والبعض كان له آراء أخرى .....
وفى كتاب الله نـجد عدد البسملات هو 114 وذلك فى القرآن كله, جميعها غير مرقمة بإستثناء موضعين : الآية الأولى من سورة الفاتحة : ورقمها 1 ، والآية الثانية فى قوله تعالى فى سورة النمل : ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، ورقم هذه الآية هو 30 ، ورغم تفاسير العلماء ... فإن كتاب الله سبحانه وتعالى ملىء بالمعجزات ..ومعجزة القرآن الكريم تكمن فى تفسيراته المتواكبة مع الزمان أبد الدهر ... فربما يفسر العلماء آية بالقرآن الكريم تفسيرا متواكبا لعلوم العصر وأدوات المعرفة المتاحة ومنها يشكل إدراك الإنسان ووعيه وقدرته على الترجمة والتفسير ... ويكون التفسير متواكبا لحدود هذه المعرفة ... فإذا ما تبدل الحال وتطورت مدارك الإنسان ومعارفه.. فإنه من الممكن أن يستجد تفسيرا جديدا ... والمعجزة أنك تجد جميع التفاسير مكملة لبعضها البعض .. وليست متضاربة ... بل أن كل تفسير يمكنه مع سابقه الوصول لجملة الحقائق والأسباب التى من أجلها نزلت هذه الآيات ... وهنا تتأتى معجزة القرآن الكريم فى أنه كتاب لكل الأزمان والعصور .
ونضرب على ذلك مثلا ... يقول الله سبحانه وتعالى ( وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) سورة الحديد : 25 ... وفى هذا الشأن كانت تفاسير العلماء تكمن فى أن الله سبحانه وتعالى خلق الحديد وأوجده ليكون فيه منافع للناس فنادرا ما تجد آلة لا يستخدم الحديد فى صناعتها ... وفيه بأس شديد فمنه تصنع آلات الحرب والقتال ... وأختصر لفظ ( أنزل )فى الوجود والخلق .. وهذه حقيقة لا جدال ولا مراء ولا شك فيها ....
وعندما تقدم العلم .. ودارت عجلة البحث العلمى وتطورت أدواته ، وقف أشهر علماء العالم في مؤتمرات الإعجاز العلمى للقرآن الكريم وهو الدكتور " استروخ " من وكالة ناسا الأمريكية للفضاء .. وقال : لقد أجرينا أبحاثا كثيرة على معادن الأرض وأبحاثا معملية .. ولكن المعدن الوحيد الذي يحير العلماء هو الحديد .. قدرات الحديد لها تكوين مميز .. إن الالكترونات والنيترونات فى ذرة الحديد لكى تتحد فهى تحتاج إلى طاقة هائلة تبلغ أربع مرات مجموع الطاقة الموجودة فى مجموعتنا الشمسية ،ولذلك فلا يمكن أن يكون الحديد قد تكون على الأرض .. ولابد أنه عنصر غريب وفد إلى الأرض ولم يتكون فيها ... ومقولة العالم الأمريكى تعطى معنى جديدا لكلمة ( أنزل ) ... فهى بالفعل نزول من ( علو إلى دنو ) أى من السماء إلى الأرض ... ونلاحظ هنا أن هذا التفسير لا يختلف مع التفسيرالسابق فى أن كلمة ( أنزل ) بمعنى خلق أو أوجد ... فالتفسير الجديد أثبت حقيقة عملية الخلق والتواجد فى أنها من عند الله ولكنه أضاف إليها طريقة الخلق والتواجد وهى ( النزول ) ...

ولأن العالم الأمريكى " استروخ " رجل علم لا يؤمن إلا بالحقائق والماديات وعقد المقارنات ، فإنه فجر مفاجئة حين قال أنه رغم أنه لا يجد ما يقوله أمام إعجاز القرآن الكريم ... إلا أنه قال أنه على إستعداد للإيمان المطلق بالقرآن ، لو وجد له تفسيرا لنفس الكلمة ( أنزل ) فى مواضع أخرى من القرآن الكريم ... فوقف يقول : يتصور المسلمون بأن قرآنهم يحوي معجزات علمية حديثة، وهم فى محاولاتهم تلك يلوون عنق اللغة العربية ويجعلون القرآن ينطق بما لم يخطر على بال كاتبه ... وفى مثالنا هذا حول المعجزة المزعومة فى القرآن بأن الحديد أتى الينا من الفضاء الخارجي نـجد المحاولة الخائبة من المسلمين مفضوحة تماما بلا ستر أو إستتار( على حد قوله )، لأن القرآن نفسه ينقضها نقضاً واضحاً....ويستطرد فى حديثه قائلا :  حسناً، أنا مستعد للتسليم بأن الحديد نزل من السماء، بل حتى من الفضاء الخارجي.. وهو ما يطابق بصورة مذهلة البحوث العلمية المعاصرة التى تجعلنى أقف بذهول أمام المعجزة الصريحة فى القرآن كباحث عن الحق أسلم للقرآن بتفوقه العلمى،  بل أصل الى الحد الذى أصرح فيه بأنى مستعد للإيمان الكامل والشامل به، لأنه خارق للطبيعة، منزل من أصل كل المعارف، الله الخالق...  ولكنى يجب أن أتوقف عند آية مشابهة وأفحصها هى الأخرى... فتقول سورة الزمر الآية 6: وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج...

وإستند العالم الأمريكى إلى تفاسير " إبن الكثير " ، و" الجلالين" و" الطبرى" والتى تقول أن معنى ( أنزل ) فى هذه الآية هى الخلق والوجود .... ويضيف العالم الأمريكى : لا يمكن أن نتخيل بقرة طائرة سابحة في الفضاء تهبط على أرضنا؟! وإذا قلت بأن معنى "وأنزل لكم من الأنعام"، هو خلق لكم من الأنعام..فيجب أن أسلم بأن "أنزلنا الحديد" تعنى أيضا خلقنا الحديد.
وهنا الرد على العالم الأمريكى ... بأن هذه هى معجزة القرآن الكريم التى ذكرناها سابقا ... فى أن كل التفسيرات فى ضوء المعارف الإدراكية للإنسان هى سليمة .. ولكنها تتكامل ليصبح للمعنى أكثر من وظيفة .. وفى هذا فإنه لا يجب إختصار المعنى فى وظيفة واحدة .. إلا بحدود الزمان والمكان ... ولأن القرآن الكريم غير محدود بزمان ومكان ، فإن المعارف الإدراكية للإنسان يمكن أن تضيف وظائف جديدة للمعنى ... وهى فى النهاية تؤدى لكمال المعنى ولا تؤدى للتضارب فى ترجمته .
وهنا فإنه لا مانع لغوى أو عقائدى من الجمع بين التفسيرين لكلمة ( أنزل ) وهى حقيقة عملية الخلق والتواجد فى أنها من عند الله بالإضافة إلى طريقة الخلق والتواجد وهى ( النزول ) ...
وعذرا ... كان لابد من هذا الإيضاح مسبقا قبل العودة إلى البسملة ... فى سورة الفاتحة ...

وفى إعتقادى أن البسملة فى سورة الفاتحة جاءت آية مستقلة لأسباب عدة ، يأتى فى أولها أنها بداية الكتاب ... والكتاب حديث الله إلى الناس ... منذ بدأ الخليقة إلى نهاية الكون والأكوان الأخرى .... وفى البسملة تعريف بالله وقسم فى آن واحد ... وهى من أدوات بداية الحديث الهام ذو الجدوى .... ولإيضاح ذلك نعطى هذا المثل ( ولله المثل الأعلى ) فنتخيل أن رئيس دولة جديد يخاطب شعبه لأول مرة... فيقول بإسم الأمة .. وهنا لأن الأمة هى مصدر وجوده وشرعيته ... ثم يبدأ فى التعريف بنفسه ومنهجه فى الإدارة والحكم ....
والله سبحانه وتعالى لم يجد أعظم من ذاته ليبدأ بإسمها ... فسبحانه وتعالى يقول ( بسم الله ) لأن الله الخالق الجبار هو مصدر وجوده ... وليس أعظم منه قاطبة فى الكون والأكوان الأخرى ... ثم يلى ذلك فى تعريف ذاته بإسمه فيقول ( الرحمن الرحيم ) ... ولذلك فأنا أعتقد أن إسمى الله الرحمن الرحيم ... من أحب أسماء الله إلى ذاته العليا .. لذلك بدأ بها فى تعريف ذاته العليا فى فاتحة الكتاب وبداية خطابه إلى الخلق .....
وثانى الأسباب ... أن فى الإسمين دلالة على إدارة الله فى خلقه وعلى منهجة الربانى وهو المنزه عن كل نقص ....وهى الرحمة ... فالرحمن والرحيم ... بهما علامتين ... الأولى التعريف بـ ( أل ) والتعريف يعنى المتفرد والأوحد بالإسم وما يحمله من صفات ... وأنه واحد أحد فيها ... والثانية أنهما من صيغ المبالغة القياسية للدلالة على المبالغة فى الصفة والزيادة فيها ... فـالـ "رحمن " صيغة مبالغة على وزن ( فعّال ) ... والـ "رحيم" صيغة مبالغة على وزن ( فعيل ) وتعريف صيغ المبالغة بـ ( أل ) يعنى التفرد وعدم التكرار فى الوجود والإنفراد بالصفة وإختلافها عن أى رحمة أخرى وكذلك إختلاف فاعلها عن أى رحيم آخر.
وأرى فى إعتقادى أيضا ( والله أعلم ) أن تقديم إسم ( الرحمن ) على ( الرحيم ) له مغزى ومعنى ذو دلالة ... فـ ( الرحمن ) صيغة مبالغة للفاعل ... وهو الله سبحانه وتعالى .. وتعنى أنه عز وجل .. الرحمن الأوحد لا بعده ولا قبله ولا يجاريه فى الرحمة أحد ..... أما ( الرحيم ) فهى صيغة مبالغة للفعل .. وتعنى أن رحمته تفوق كل الرحمات ... ومن الطبيعى أن يسبق الفاعل .. الفعل ... لأن فاعل الشىء يكون أولا ثم يأتى الفعل لاحقا ..
من أجل كل ما سبق أتصور سببا من أسباب ذكر آية ( البسملة ) كآية مستقلة فى مقدمة القرآن وفاتحة كتاب الله تعالى .......... والله أعلم ...

باســـــــم عــــادل

30 – أكتوبر - 2011




العودة للقائمة الرئيسية ( إضغط هنا )


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق